فصل: (بَاب قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: كشاف القناع عن متن الإقناع



.(بَاب قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ):

وَهُوَ مَصْدَرٌ بَغَى يَبْغِي إذَا اعْتَدَى وَالْمُرَادُ هُنَا الظَّلَمَةُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمُعْتَدُونَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلَى قَوْله: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَفِيهِ فَوَائِدٌ مِنْهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِالْبَغْيِ عَنْ الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ أَوْجَبَ قِتَالَهُمْ وَأَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ التَّبِعَةَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي قِتَالِهِمْ وَإِجَازَةُ قِتَالِ كُلِّ مَنْ مَنَعَ حَقًّا عَلَيْهِ وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مِنْهَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِهِمْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَعَلِيًّا قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَأَهْلَ صِفِّينَ.
(نَصْبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) لِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ لِحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحَوْزَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ طَائِفَتَانِ إحْدَاهُمَا أَهْلُ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يَخْتَارُوا وَالثَّانِيَةُ مَنْ تُوجَدُ فِيهِمْ شَرَائِطُ الْإِمَامَةِ حَتَّى يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمْ لَهَا، أَمَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ الْمُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ وَالرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ الْمُؤَدِّي إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ.
وَأَمَّا شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فَتَأْتِي فِي كَلَامِهِ (وَيَثْبُتُ) نَصْبُ الْإِمَامِ (بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ كَإِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ بَيْعَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ) الَّذِينَ (بِصِفَةِ الشُّهُودِ) مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا نَظَرَ لِمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْهَوَامِّ (أَوْ يُجْعَلُ الْأَمْرُ شُورَى فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ لِيَتَّفِقَ أَهْلُهَا) أَيْ أَهْلُ الْبَيْعَةِ (عَلَى أَحَدِهِمْ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ) كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ جَعَلَ أَمْرَ الْإِمَامَةِ شُورَى بَيْن سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَوَقَعَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(أَوْ بِنَصِّ مَنْ قَبْلَهُ عَلَيْهِ) بِأَنْ يَعْهَدَ الْإِمَامُ بِالْإِمَامَةِ إلَى إنْسَانٍ يَنُصُّ عَلَيْهِ بَعْدَهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَمَا عَهِدَ أَبُو بَكْرٍ بِالْإِمَامَةِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَوْ بِاجْتِهَادٍ) مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى نَصْبِ مَنْ يَصْلُحُ وَمُبَايَعَتِهِ (أَوْ بِقَهْرِهِ النَّاسَ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَدَعَوْهُ إمَامًا) فَثَبَتَ لَهُ الْإِمَامَةُ وَيَلْزَمُ الرَّعِيَّةُ طَاعَتَهُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ يَبِيتُ وَلَا يَرَاهُ إمَامًا بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا انْتَهَى.
لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلْكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا وَدَعَوْهُ إمَامًا وَلِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ.
(وَيُعْتَبَرُ) فِي الْإِمَامِ (كَوْنُهُ قُرَشِيًّا) لِحَدِيثِ «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَحَدِيثِ «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» وَقَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ لِلْأَنْصَارِ: إنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَوَوْا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارِ (بَالِغًا عَاقِلًا) لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ يَحْتَاجُ لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ، فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ (سَمِيعًا بَصِيرًا نَاطِقًا) لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَّصِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَصْلُحُ لِلسِّيَاسَةِ (حُرًّا) لَا عَبْدًا وَلَا مُبَعَّضًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ ذُو الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَحَدِيثِ «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ أَسْوَدُ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» مَحْمُولٌ عَلَى نَحْوِ غَيْرِ سَرِيَّةٍ (ذَكَرًا) لِحَدِيثِ «خَابَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» (عَدْلًا) لِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَهِيَ دُونَ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى قُلْتُ: فَإِنْ قَهَرَ النَّاسَ غَيْرُ عَدْلٍ فَهُوَ إمَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسٍ (عَالِمًا) بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مُرَاعَاتِهَا فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ (ذَا بَصِيرَةٍ) أَيْ مَعْرِفَةٍ وَفِطْنَةٍ (كَافِيًا ابْتِدَاءً وَدَوَامًا) لِلْحُرُوبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي الذَّبِّ عَنْ الْأُمَّةِ وَنَحْوُ الْإِغْمَاءِ لَا يَمْنَعُ عَقْدَهَا وَلَا اسْتِدَامَتَهَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ وَالْجُنُونُ وَالْخَبَلُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا إفَاقَةٌ أَوْ كَانَا أَكْثَرُ زَمَانِهِ مَنَعَا الِابْتِدَاءَ وَالِاسْتِدَامَةَ.
وَأَمَّا فَقْدُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَتَمْتَمَةِ اللِّسَانِ مَعَ إدْرَاكِ الصَّوْتِ إذَا عَلَا وَقَطْعِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ عَقْدَهَا وَلَا اسْتِدَامَتَهَا وَذَهَابِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهَا وَاسْتِدَامَتَهَا.
(وَلَوْ تَنَازَعَهَا اثْنَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي صِفَاتِ التَّرْجِيحِ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا بِقُرْعَةٍ) فَيُبَايَعُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ وَصِفَتُهَا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُلُّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ قَدْ بَايَعْنَاكَ عَلَى إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِفُرُوضِ الْإِمَامَةِ وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ صَفْقَةُ الْيَدِ.
(فَإِنْ بُويِعَ لِاثْنَيْنِ فِيهِمَا شَرَائِطُ الْإِمَامَةِ فَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ) لِسَبَقِهِ (وَإِنْ بُويِعَ لَهُمَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ فِيهِمَا) لِأَنَّ الْعَمَلَ بِبَيْعَةِ أَحَدِهِمَا إذَنْ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ.
(وَيُجْبَرُ مُتَعَيِّنٌ لَهَا) أَيْ لِلْإِمَامَةِ لِئَلَّا تَذْهَبَ حُقُوقُ النَّاسِ (وَتَصَرُّفُهُ) أَيْ الْإِمَامِ (عَلَى النَّاسِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَهُمْ فَهُوَ وَكِيلُ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ) وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعَاقِلَةِ (وَلَهُمْ) أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ (عَزْلُهُ إنْ سَأَلَ الْعَزْلَ لِقَوْلِ) أَبِي بَكْرٍ (الصِّدِّيقِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي) قَالُوا: لَا نُقِيلُكَ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْعَزْلَ (حَرُمَ) عَزْلُهُ (إجْمَاعًا) سَوَاءٌ كَانَ سَأَلَ الْإِمَامَةَ أَوْ لَا خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ التَّنْقِيحِ وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى (وَلَا يَنْعَزِلُ) الْإِمَامُ (بِفِسْقِهِ) بِخِلَافِ الْقَاضِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ (وَلَا) يُعْزَلُ (بِمَوْتِ مَنْ بَايَعَهُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلًا عَنْهُ بَلْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ (وَيَحْرُم قِتَالُهُ) لِمَا سَبَقَ.
وَيَلْزَم الْإِمَامَ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ حِفْظُ الدِّينِ عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ فَإِنْ زَاغَ ذُو شُبْهَةٍ عَنْهُ بَيَّنَ لَهُ بِالْحُجَّةِ وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحُقُوق لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ الْخَلَلِ، وَتَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ مَا بَيْنهمْ مِنْ الْخُصُومَاتِ وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ وَالذَّبُّ عَنْ الْحَوْزَةِ لِيَنْصَرِفَ النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ وَيَسِيرُوا فِي الْأَسْفَارِ آمَنِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ عَنْ الِانْتِهَاكِ وَتُحْفَظُ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إتْلَافٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ وَتَحْصِينِ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ حَتَّى لَا تَظْفَرَ الْأَعْدَاءُ بِغِرَّةٍ يَنْتَهِكُونَ بِهَا مُحَرَّمًا أَوْ يَسْفِكُونَ بِهَا دَمًا مَعْصُومًا وَجِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَدْخُلَ فِي الذِّمَّةِ وَجِبَايَةُ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَتَقْدِيرُ الْعَطَاءِ وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفِ وَلَا تَقْصِيرٍ وَدَفْعُهُ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَاسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يُفَوِّضُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ لِتَكُونَ مَضْبُوطَةٌ مَحْفُوظَةٌ، وَأَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ وَيَتَصَفَّحَ الْأَحْوَالَ لِيَنْهَضَ بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلًا فَقَدْ يَخُونُ الْأَمِينُ وَيَغُشُّ النَّاصِحُ وَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ بِحُقُوقِ الْأُمَّةِ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ: الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ.
(وَالْخَارِجُونَ عَنْ قَبْضَتِهِ) أَيْ طَاعَتِهِ (أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ) بِالِاسْتِقْرَاءِ (أَحَدُهَا قَوْمٌ امْتَنَعُوا مِنْ طَاعَتِهِ وَخَرَجُوا عَنْ قَبْضَتِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ) أَيْ شُبْهَةٍ (فَهَؤُلَاءِ الْقُطَّاعُ) سَاعُونَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ) فِي الْبَابِ قَبْلَهُ (الثَّانِي) قَوْمٌ (لَهُمْ تَأْوِيلٌ إلَّا أَنَّهُمْ نَفَرٌ يَسِيرٌ لَا مَنَعَةَ) أَيْ قُوَّةَ (لَهُمْ كَالْعَشَرَةِ وَنَحْوِهِمْ وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ) لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتنَا لِلْعَدَدِ الْيَسِيرِ حُكْمَ الْبُغَاةِ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوا أَفْضَى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ (الثَّالِثُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ) الْمُسْلِمَ (بِالذَّنْبِ وَيُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا مَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ فَهُمْ فَسَقَةٌ) بِاعْتِقَادِهِمْ الْفَاسِدِ قَالَ فِي الْمُبْدِعِ: تَتَعَيَّنُ اسْتِتَابَتُهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا عَلَى إفْسَادِهِمْ لَا عَلَى كُفْرِهِمْ (يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالْقِتَالِ (وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ) صَحَّحَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِرِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ (وَذَهَبَ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ وَالرِّعَايَتَيْنِ وَهِيَ أَشْهَرُ وَذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ).
قَالَ أَحْمَدُ الْخَوَارِجُ كِلَابُ النَّارِ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمْ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ.
قَالَ وَالْحُكْمُ فِيهِمْ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ وَفِيهَا قَالَ: «لَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى كُفْرِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَقَوْلُهُ:
يَتَمَارَى فِي الْفِرَقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَقَلُوا مِنْ الْإِسْلَامِ شَيْئًا بِحَيْثُ يُشَكُّ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهُ.
(وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ عَنْ أَصْحَابِنَا تَكْفِيرَ مَنْ خَالَفَ فِي أَصْلِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُرْجِئَةِ) الصِّنْفُ (الرَّابِعُ قَوْمُ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ بَايَعُوا الْإِمَامَ وَرَامُوا خَلْعَهُ) أَيْ عَزْلَهُ (أَوْ مُخَالَفَتَهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ صَوَابٍ أَوْ خَطَأٍ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ) بِحَيْثُ.
(يُحْتَاجُ فِي كَفِّهِمْ إلَى جَمْعِ جَيْشٍ وَهُمْ الْبُغَاةُ) الْمَقْصُودُونَ بِالتَّرْجَمَةِ (فَمَنْ خَرَجَ عَلَى إمَامٍ وَلَوْ غَيْرِ عَدْلٍ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ) الْأَرْبَعَةِ (بَاغِيًا وَجَبَ قِتَالُهُ) لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ (وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مُطَّلِعٌ) أَوْ لَا (أَوْ كَانُوا فِي طَرَفِ وِلَايَتِهِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مُتَوَسِّطٍ تُحِيط بِهِ وِلَايَتُهُ أَوْ لَا) لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.
(وَ) يَجِبُ (عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرَاسِلَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةَ (وَيَسْأَلَهُمْ مَا يَنْقِمُونَ مِنْهُ) لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ إلَى الصُّلْحِ وَوَسِيلَةٌ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ» وَلَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ بَعَثَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَوَاضَعُوهُ كِتَاب اللَّهِ ثَلَاثَة أَيَّامٍ فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ.
(وَ) أَنْ (يُزِيلَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَظْلِمَةٍ وَيَكْشِفَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ شُبْهَةٍ) لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ إلَى رُجُوعِهِمْ إلَى الْحَقِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ وَالْهَرَجِ وَالْمَرَجِ قَبْلَ دُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (إلَّا أَنْ يَخَافَ كَلَبَهُمْ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَاللَّامِ أَيْ شَرَّهُمْ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ كَالصَّائِلِ إذَا خَافَ أَنْ يَبْدَأَهُ بِالْقَتْلِ (فَإِنْ أَبَوْا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَالِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ شَرِّهِمْ لَا قَتْلُهُمْ (فَإِنْ فَاءُوا) أَيْ رَجَعُوا إلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ (وَإِلَّا لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إنْ كَانَ قَادِرًا) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ قَادِرًا عَلَى قِتَالِهِمْ (أَخَّرَهُ إلَى الْإِمْكَانِ) أَيْ إلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا}.
(وَ) يَجِبُ (عَلَى رَعِيَّتِهِ مَعُونَتُهُ عَلَى حَرْبِهِمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ.
(وَإِنْ اسْتَنْظَرُوهُ) أَيْ طَلَبَ الْبُغَاةُ مِنْهُ أَنْ يُنْظِرَهُمْ (مُدَّةً رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ فِيهَا أَنْظَرَهُمْ) حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ مَنْ يَحْفَظُ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِنْظَارَ إذَنْ أَوْلَى مِنْ مُعَالَجَتِهِمْ بِالْقِتَالِ الْمُؤَدِّي إلَى الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ (وَإِنْ ظَنَّ) الْإِمَامُ (أَنَّهَا) أَيْ طَلَبَ مُقَاتِلَتِهِمْ الْإِنْظَارَ (مَكِيدَةٌ لَمْ يُنْظِرْهُمْ) لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ طَرِيقًا إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْحَقِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ (وَإِنْ أَعْطَوْهُ مَالًا وَإِنْ بَذَلُوا رَهَائِنَ عَلَى إنْظَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِتِلْكَ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا (فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ قَبِلَهُمْ الْإِمَامُ وَاسْتَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةِ (فَإِنْ أَطْلَقُوا) أَيْ الْبُغَاةُ (الْأَسْرَى) مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ (أُطْلِقَتْ رَهَائِنُهُمْ) وَفَاءً لَهُمْ بِمَا قِيلَ لَهُمْ (فَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ) مِنْ أَسْرَى أَهْلِ الْعَدْلِ (لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ وَلَا أَسَرَاهُمْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ خُلِّيَتْ الرَّهَائِنُ كَمَا تُخْلَى الْأَسْرَى مِنْهُمْ) لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إرْسَالِهِمْ خَوْفُ مُسَاعِدَةِ إخْوَانِهِمْ وَقَدْ زَالَ.
(وَإِنْ سَأَلُوهُ) أَيْ سَأَلَ الْبُغَاةُ الْإِمَامَ (أَنْ يُنْظِرَهُمْ أَبَدًا وَيَدَعَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِمْ وَيَكُفُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَخَافَ فَقَرَّهُمْ إنْ قَاتَلَهُمْ تَرَكَهُمْ) حَتَّى يَقْوَى عَلَى قِتَالِهِمْ (وَإِنْ قَوِيَ) الْإِمَامُ (عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخُرُوجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ قُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ.
(وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَإِنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قُوتِلُوا مُقْبِلِينَ وَتُرِكُوا مُدْبِرِينَ كَغَيْرِهِمْ) مِنْ الْأَحْرَارِ الذُّكُورِ وَالْبَالِغِينَ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ.
وَفِي التَّرْغِيب وَمُرَاهِقٌ وَعَبْدٌ كَخَيْلٍ.
(وَيُكْرَه قَصْدُ رَحِمِهِ الْبَاغِي) كَأَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ (بِقَتْلٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَقَالَ الشَّافِعِيُّ «كَفَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُقْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ» (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ قَتَلَ ذَا رَحِمِهِ الْبَاغِي (وَرِثَهُ) لِأَنَّ قَتْلَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَكَذَا لَوْ قَتَلَ الْبَاغِي ذَا رَحِمِهِ الْعَادِلِ وَكَذَا الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ.
(وَيَحْرُم قَتْلُهُمْ) أَيْ قِتَالُهُمْ (بِمَا يَعُمُّ إتْلَافَهُ كَالْمَنْجَنِيقِ وَالنَّارِ) لِأَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ يَجُوزُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ كَغَيْرِ الْمُقَاتِلِ (إلَّا لِضَرُورَةٍ مِثْلَ أَنْ يَحْتَاطَ بِهِمْ الْبُغَاةُ وَلَا يُمْكِنهُمْ التَّخَلُّصَ إلَّا بِذَلِكَ) كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِلِ (وَإِنْ رَمَاهُمْ الْبُغَاةُ بِذَلِكَ) أَيْ بِمَنْجَنِيقٍ أَوْ نَارٍ (جَازَ) لِأَهْلِ الْعَدْلِ (رَمْيُهُمْ بِمِثْلِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
(وَإِنْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ الْبُغَاةِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْخَطَإِ (فَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا) أَيْ الطَّائِفَتَيْنِ (لَمْ يَمِلْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْبُغَاةِ (وَإِنْ عَجَزَ) عَنْ قِتَالِهِمَا مَعًا (وَخَافَ) الْإِمَامُ (اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى حَرْبِهِ ضَمَّ إلَيْهِ أَقْرَبَهُمَا إلَى الْحَقِّ) دَفْعًا لِأَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا (وَإِنْ اسْتَوَيَا اجْتَهَدَ) الْإِمَامُ (بِرَأْيِهِ فِي ضَمِّ إحْدَاهُمَا) إلَيْهِ (وَلَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ مَعُونَةَ إحْدَاهُمَا) عَلَى الْأُخْرَى (بَلْ) يُقْصَدُ بِذَلِكَ (الِاسْتِعَانَةَ عَلَى) الطَّائِفَةِ (الْأُخْرَى) لِيَرُدَّهَا إلَى الْحَقِّ (فَإِذَا هَزَمَهَا) الْإِمَامُ (لَمْ يُقَاتِلْ مَنْ مَعَهُمْ) أَيْ الطَّائِفَةَ الَّتِي ضَمَّهَا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ (حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الطَّاعَةِ) لِأَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي أَمَانِهِ فَإِذَا دَعَاهُمْ فَإِنْ أَطَاعُوهُ كَفَّ عَنْهُمْ وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ لِمَا تَقَدَّمَ.
(وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ) أَهْلُ الْعَدْلِ (فِي حَرْبِهِمْ) أَيْ قِتَالِهِمْ لِلْبُغَاةِ (بِكَافِرٍ) لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعَانَ بِهِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَلِئَلَّا يُسْتَعَانَ بِهِ فِي قِتَالِ مُسْلِمٍ بِطَرِيقٍ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ لَا قَتْلُهُمْ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا قَتْلَهُمْ (أَوْ) أَيْ وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي حَرْبِهِمْ (بِمَنْ يَرَى قَتْلَهُمْ مُدْبِرِينَ) لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيطِ لَهُ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ (إلَّا لِضَرُورَةٍ) كَأَنْ يَعْجِزَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَنْ قِتَالِهِمْ لِقِلَّتِهِمْ فَيَجُوزُ لِلْحَاجَةِ لِفِعْلِهِمْ إنْ لَمْ تَفْعَلْهُ (وَلَهُ) أَيْ الْإِمَامِ (أَنْ يَسْتَعِينْ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ وَهُوَ خَيْلُهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَقَطْ) كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ (وَلَا يَجُوزُ) الِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَخُيُولِهِمْ (فِي غَيْرِ قِتَالِهِمْ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَصَمَ أَمْوَالَهُمْ وَإِنَّمَا أُبِيحَ قِتَالُهُمْ لِرَدِّهِمْ إلَى الطَّاعَةِ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَى الْعِصْمَةِ كَمَالِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ (وَمَتَى انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَجَبَ رَدُّهُ) أَيْ سِلَاحِ الْبُغَاةِ (إلَيْهِمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ) لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ كَأَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهَا لِأَنَّ مُلْكَهُمْ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا بِالْبَغْيِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: «مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مَعَ أَحَدٍ فَلْيَأْخُذْهُ» فَعَرَفَ بَعْضُهُمْ قِدْرًا مَعَ أَصْحَاب عَلِيٍّ وَهُوَ يَطْبُخُ فِيهَا فَسَأَلَهُ إمْهَالَهُ حَتَّى يَنْضَجَ الطَّبْخُ فَأَبَى وَكَبَّهُ وَأَخَذَهَا (وَالْمُرَاهِقُ مِنْهُمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (وَالْعَبْدُ كَالْخَيْلِ) تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمَا عَلَيْهِمْ عِنْد الضَّرُورَةِ فَقَطْ وَيُرَدَّانِ بَعْدَ الْحَرْبِ.
(وَإِذَا تَرَكُوا) أَيْ الْبُغَاةُ (الْقِتَالَ إمَّا بِالرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إلَى فِئَةٍ أَوْ) بِالْهَزِيمَةِ (إلَى غَيْرِ فِئَةٍ أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَ) حَرُمَ (اتِّبَاعُ) مُدْبِرِهِمْ (وَقَتْلُ جَرِيحَهُمْ) لِمَا رَوَى مَرْوَانُ قَالَ: «صَرَخَ صَارِخٌ لِعَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا يُقْتَلُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ» رَوَاهُ سَعِيدٌ وَعَنْ عَمَّارٍ نَحْوُهُ كَالصَّائِلِ (فَإِنْ قُتِلَ مُدْبِرُهُمْ أَوْ جَرِيحُهُمْ فَلَا قَوَدَ) عَلَى قَاتِلِهِ (لِلِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ) فَيَكُونُ شُبْهَةً وَلَكِنْ يَضْمَنُهُ بِالدِّيَةِ.
(وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُغْنَمَ لَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (مَالٌ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْفُرُوا بِبَغْيِهِمْ وَلَا قِتَالِهِمْ وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ تَابِعَةٌ لِدِينِهِمْ (وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ) لِعِصْمَتِهِمْ (وَيَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ إلَيْهِمْ إنْ أُخِذَ مِنْهُمْ) لِمَا سَبَقَ (وَلَا يُرَدُّ السِّلَاحُ وَالْكُرَاعُ) أَيْ الْخَيْلُ (حَالَ الْحَرْبِ) لِأَنَّ فِيهِ مَعُونَةً عَلَيْنَا (بَلْ) يُرَدَّانِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.
(وَمَنْ أُسِرَ مِنْ رِجَالهمْ فَدَخَلَ فِي الطَّاعَةِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) وَلَوْ كَانَ مُطَاعًا زَادَ فِي الرِّعَايَةِ إنْ أُمِنَ شَرُّهُ (وَإِنْ أَبَى) الدُّخُولَ فِي الطَّاعَةِ (وَكَانَ جَلَدًا) قَوِيًّا (حُبِسَ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَإِذَا انْقَضَتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) لِأَنَّ فِي إطْلَاقِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا سَاعَدَ عَلَيْهِمْ وَفِي حَبْسِهِ كَسْرُ قُلُوبِ الْبُغَاةِ وَإِضْعَافِ شَوْكَتِهِمْ زَادَ فِي الشَّرْحِ (وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْقِتَالِ وَلَا يُرْسَلُ مَعَ بَقَاءِ شَوْكَتِهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِلْبُغَاةِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ (فَإِنْ بَطَلَتْ شَوْكَتُهُمْ وَلَكِنْ يُتَوَقَّعُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْحَالِ لَمْ يُرْسَل) حَتَّى يَزُولَ ذَلِكَ (وَإِنْ أُسِرَ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ فُعِلَ بِهِمَا كَمَا يُفْعَلُ بِالرَّجُلِ) لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْبُغَاةِ (وَلَا يُخْلَى) سَبِيلُهُمَا (فِي الْحَالِ) بَلْ إذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ وَزَالَتْ شَوْكَتُهُمْ.
(وَيَجُوزُ فِدَاءُ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَسَارَى الْبُغَاةِ) وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَسْرَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أَسْرَاهُمْ وَتَقَدَّمَ (وَلَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْعَدْلِ مَا أَتْلَفُوهُ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (حَالَ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ) لِأَنَّهُ فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ كَقَتْلِ الصَّائِلِ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قُتِلَ الْعَادِلُ كَانَ شَهِيدًا) كَالْمَصُولِ عَلَيْهِ (وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ) وَيُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا بَعْدَ نَزْعِ لَأْمَةِ حَرْبٍ وَنَحْوِ خُفٍّ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي قِتَالٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَشَهِيدِ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ (وَلَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْي أَيْضًا مَا أَتْلَفُوهُ) عَلَى أَهْلِ عَدْلٍ (حَالَ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ) لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ «هَاجَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مُتَوَاتِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنْ لَا يُقَادَ أَحَدٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ» ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَاحْتَجَّ بِهِ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَلِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ فَسَقَطَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ كَأَهْلِ الْعَدْلِ.
(وَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ الطَّائِعِينَ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْحَرْبِ ضَمِنَهُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فِي حَالِ الْحَرْبِ لِلضَّرُورَةِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.
(وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالْبَغْيِ عَنْ الْإِسْلَامِ (وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا) أَيْ الْبُغَاةُ (مِنْ أَهْلِ بِدَعٍ فَلَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، بَلْ مُخْطِئِينَ فِي تَأْوِيلِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ وَمَا أَخَذُوا فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ جِزْيَةٍ لَمْ يَعُدْ) أَيْ يَرْجِعْ (عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَاذِلٍ) وَأَجْزَأَ (لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ) لِأَنَّ عَلِيًّا لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَاهُ أَهْلُ الْبَغْي وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَأْتِيهِمْ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ فَيَدْفَعُوا إلَيْهِ زَكَاتَهُمْ وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الِاحْتِسَابِ بِهِ ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَثِيرَةً لِأَنَّهُمْ قَدْ يَغْلِبُوا عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ خَوَارِجٌ كَانُوا أَوْ غَيْرُهُمْ (وَمَا أَقَامُوا مِنْ حَدٍّ وَقَعَ مَوْقِعَهُ أَيْضًا خَوَارِجٌ كَانُوا أَوْ غَيْرُهُمْ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
(وَمَنْ ادَّعَى دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ قُبِلَ بِغَيْرِ يَمِينٍ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا قَالَ أَحْمَدُ: «لَا تُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ» (وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى دَفْعِ خَرَاجٍ) إلَيْهِمْ (وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ مُسْلِمًا وَلَا دَعْوَى دَفْعِ جِزْيَةٍ إلَيْهِمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِوَضٌ وَالْأَصْلُ عَدَمِ الدَّفْعِ.
(وَلَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (إلَّا مَا يُنْقَض مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ) بِأَنْ خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ إجْمَاعًا وَنَحْوَهُ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَهُ مَسَاغٌ فِي الشَّرْعِ لَا يُوجِبُ تَفْسِيقَ قَائِلِهِ أَشْبَهَ الْمُخْطِئَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْعٍ مِنْ الْأَحْكَامِ.
(وَإِنْ كَتَبَ قَاضِيهُمْ) أَيْ الْبُغَاةِ (إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ جَازَ قَبُولُ كِتَابِهِ) وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ لِأَنَّهُ قَاضٍ ثَابِتُ الْقَضَاءِ.
وَفِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَالتَّرْغِيبِ (الْأَوْلَى) رَدُّ كِتَابِهِ أَيْ (أَنْ لَا يَقْبَلَهُ) قَبْلَ حُكْمِهِ كَسْرًا لِقُلُوبِهِمْ.
(وَإِنْ وَلَّى الْخَوَارِجُ قَاضِيًا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ) لِلْفِسْقِ وَفِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ: احْتِمَالٌ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
(وَإِنْ ارْتَكَبَ أَهْلُ الْبَغْي فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ حَدًّا ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ أُقِيمَ عَلَيْهِمْ) لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.
(وَإِنْ أَعَانَهُمْ) أَيْ الْبُغَاةَ (أَهْلُ ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ) بِإِعَانَتِهِمْ لَهُمْ طَوْعًا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ (وَصَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ) تَحِلُّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِقِتَالِهِمْ (إلَّا أَنْ يَدَّعُوا شُبْهَةً كَأَنْ يَظُنُّوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعُونَةَ مَنْ اسْتَعَانَ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَنْتَقِضُ) عَهْدُهُمْ لِأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مُحْتَمَلٌ فَيَكُونُ شُبْهَةً (وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ) لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ (وَ) إنْ (ادَّعَوْا ذَلِكَ) أَيْ الْإِكْرَاهَ (قُبِلَ مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ.
وَفِي الْكَافِي وَالشَّرْحِ بِبَيِّنَةٍ (وَيُغَرَّمُونَ) أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ (مَا أَتْلَفُوهُ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ (مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ حَالَ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ) بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْي لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ وَلِأَنَّ سُقُوطَ الضَّمَانِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ لِلطَّاعَةِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذَلِكَ فِيهِمْ.
(وَإِنْ اسْتَعَانُوا) أَيْ الْبُغَاةُ (بِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمَّنُوهُمْ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُمْ) كَمَا لَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ (وَأُبِيحَ) لِأَهْلِ الْعَدْلِ (قَتْلُهُمْ) مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ (وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ حُكْمُ أَسِيرِ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ) يُخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالرِّقِّ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ إلَّا أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ أَمَّنَهُمْ مِنْ الْبُغَاةِ.
(وَإِنْ أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ مِثْلِ تَكْفِيرِ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَ) مِثْلِ (تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَاسْتِحْلَالِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَجْتَمِعُوا لِحَرْبٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ) حَيْثُ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ» (وَإِنْ سَبُّوا الْإِمَامَ أَوْ عَدْلًا غَيْرَهُ أَوْ تَعَرَّضُوا بِالسَّبِّ عَزَّرَهُمْ) لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ (وَإِنْ جَنَوْا جِنَايَةً وَأَتَوْا حَدًّا أَقَامَهُ) الْإِمَامُ (عَلَيْهِمْ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ فِي ابْنِ مُلْجِمٍ لَمَّا جَرَحَهُ: «أَطْعِمُوهُ وَاسْقُوهُ وَاحْبِسُوهُ فَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ» وَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِبُغَاةٍ فَهُمْ كَأَهْلِ الْعَدْلِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ.
(وَإِنْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ طَلَبِ رِئَاسَةٍ فَهُمَا ظَالِمَتَانِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَاغِيَةٌ عَلَى الْأُخْرَى (وَتَضْمَنُ كُلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الْأُخْرَى) لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ نَفْسًا مَعْصُومَةً وَمَالًا مَعْصُومًا قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ عَلَى مَجْمُوعِ الطَّائِفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَيْنُ الْمُتْلِفِ وَإِنْ تَقَابَلَا تَقَاصَّا لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ وَالْمُعِينَ سَوَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ مَا نَهَبَتْهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأُخْرَى تَسَاوَتَا كَمَنْ جَهِلَ قَدْرَ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ النِّصْفَ وَالْبَاقِي لَهُ (فَلَوْ قُتِلَ مَنْ دَخَلَ بَيْنَهُمْ بِصُلْحٍ وَجُهِلَ قَاتِلُهُ ضَمِنَتَاهُ) وَإِنْ عُلِمَ قَاتِلُهُ مِنْ طَائِفَةٍ وَجُهِلَ عَيْنُهُ ضَمِنَتْهُ وَحْدَهَا.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيُفَارَقُ الْمَقْتُولُ فِي زِحَامِ الْجَامِعِ وَالطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الزِّحَامَ وَالطَّوَافَ لَيْسَ فِيهَا تَعَدٍّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
تَتِمَّةً قَالَ فِي الِاخْتِبَارَاتِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ شَرِيعَةٍ مُتَوَاتِرَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَالْمُحَارِبِينَ وَأَوْلَى.